أول من صنع طائرة شراعية: بداية الطيران في التاريخ

شهد تاريخ الطيران العديد من المراحل المفصلية، غير أن الطائرة الشراعية تُعدّ من أولى الوسائل التي استخدمها الإنسان لمحاكاة الطيران الحرّ، وكانت بمثابة نقطة التحوّل الحاسمة التي مهدت لظهور الطائرات الآلية والمزودة بالمحركات. ومن بين أبرز الشخصيات التي تركت بصمة خالدة في هذا المضمار، يأتي اسم أوتو ليلينتال، الذي يُعتبر أول من صنع طائرة شراعية ناجحة وعملية، ليبدأ بذلك عصرًا جديدًا في تاريخ الطيران.

السياق التاريخي لمحاولات الطيران

حلم الطيران ليس وليد العصر الحديث، بل هو طموح قديم يعود إلى حضارات عريقة مثل الحضارة الإغريقية والمصرية، حيث ظهرت في الأساطير حكايات عن الإنسان الطائر، مثل قصة “إيكاروس وديدالوس”. لاحقًا، حاول مفكرون مثل العالم المسلم عباس بن فرناس في القرن التاسع الميلادي تجريب أدوات طيران بدائية مستوحاة من حركة الطيور.

غير أن هذه المحاولات ظلت رمزية أو محدودة التأثير، حيث لم تتعدَّ كونها محاولات فردية تفتقر إلى المنهج العلمي المدروس. الفارق الجوهري في تاريخ الطيران بدأ في القرن التاسع عشر عندما ظهرت محاولات علمية قائمة على الملاحظة الدقيقة والتجريب المتواصل.

أوتو ليلينتال: الأب المؤسس للطيران الشراعي

ولد أوتو ليلينتال في 23 مايو 1848 في مدينة أنكلام، بمملكة بروسيا (حالياً ألمانيا). منذ صغره، أبدى اهتمامًا بالغًا في فيزياء الهواء وحركة الطيور، حيث قضى سنوات طويلة في دراسة أنماط طيران الطيور الكبيرة كاللقلق، مما شكّل الأساس النظري الذي اعتمد عليه في تطوير طائرته الشراعية.

الدراسة والتحليل العلمي

اعتمد ليلينتال على دراسة دقيقة لتوزيع الضغط الهوائي على أجنحة الطيور عند الطيران، ونشر نتائج أبحاثه في كتاب بعنوان “الطيران كأُساس للطيَران الجوي” سنة 1889. هذا المؤلف أصبح مرجعًا مهمًا في علم الطيران لاحقًا، واستند إليه الأخوان رايت في تجاربهما الخاصة.

ابتكاره للطائرة الشراعية

بين عامي 1891 و1896، قام ليلينتال بتصميم وبناء عدد من الطائرات الشراعية التي كانت تعتمد على قدرة الإنسان على الانزلاق في الهواء باستخدام الأجنحة ذات الانحناء الهوائي (aerofoil)، وهو المفهوم الأساسي في رفع الطائرة. بلغت عدد محاولاته أكثر من 2000 تجربة طيران شراعي، وسجل طيرانًا حرًا بلغ طوله أكثر من 250 مترًا.

وكان أول من أدخل مفهوم “الاستقرار الهوائي” للطائرات الشراعية، حيث عمد إلى توزيع الوزن والمحور بطريقة تُسهم في الحفاظ على توازن الطائرة أثناء الطيران، وهي خاصية مركزية في بناء أي طائرة حتى يومنا هذا.

الطائرات الشراعية التي صنعها ليلينتال

طور ليلينتال عدة نماذج من الطائرات الشراعية، من بينها:

الحادثة المأساوية ووفاته

في 9 أغسطس 1896، أثناء إحدى تجاربه في الطيران الشراعي، تعرّض أوتو ليلينتال لحادث سقوط من ارتفاع يزيد عن 15 مترًا بعد أن فقد السيطرة على طائرته نتيجة تيار هوائي غير متوقع. توفي في اليوم التالي متأثرًا بجراحه، وكان في الثامنة والأربعين من عمره.

آخر كلماته كانت: “يجب أن نستمر”. جملة تعكس إصراره وإيمانه بأن تطور الطيران أمر لا بد منه، حتى لو كلف ذلك التضحية.

أثر ليلينتال على مستقبل الطيران

ما فعله أوتو ليلينتال لم يكن مجرد تجربة ميكانيكية بدائية، بل وضع القواعد النظرية والعملية لأول مرة في الطيران الجوي. ومن أبرز الذين تأثروا به:

• الأخوان رايت: اعتمدوا على كتبه وتصاميمه كنقطة انطلاق، واعتبروه ملهمًا ومصدرًا علميًا ذا أهمية كبرى. بل وصفه أورفيل رايت بأنه “الرجل الذي مهد لنا الطريق”.

• صمويل لانغلي وبيرس س. بيل: مطورون للطيران في الولايات المتحدة استندوا في تجاربهم على مفاهيم ليلينتال الخاصة بانسيابية الهواء.

• المدارس الأوروبية للطيران: تم تدريس أعماله في عدد من الأكاديميات والمراكز الهندسية، وتم إعادة إنتاج طائراته الشراعية لاستخدامها في التدريب الأولي للطيارين.

مقارنة بين ليلينتال ومحاولات سابقة

يُعدّ الفرق بين أوتو ليلينتال ومحاولات مثل عباس بن فرناس أو ليوناردو دافنشي جوهريًا. بينما اعتمدت تلك المحاولات على الإلهام والحدس البشري أو الرسومات النظرية، فقد جاء ليلينتال بالمنهج التجريبي المعتمد على القياس والملاحظة والتعديل بناءً على التجربة. وهو ما يُميز العلم الحديث عن الفكر الفلسفي القديم.

المبادئ الفيزيائية التي اعتمد عليها ليلينتال

قام ليلينتال بتطبيق عدة مبادئ فيزيائية في تصميمه، أهمها:

1. الرفع الهوائي (Lift): من خلال تصميم الأجنحة المنحنية التي تسمح بتكوين فرق في الضغط بين السطح العلوي والسفلي للجناح.

2. المقاومة الهوائية (Drag): قلل من حجم سطح الاحتكاك بالجسم للطيران مسافات أطول.

3. الثبات الديناميكي (Stability): وضع مركز ثقل الطائرة أسفل الأجنحة للحصول على توازن أثناء الطيران.

4. زاوية الهجوم (Angle of Attack): دراسة العلاقة بين زاوية الجناح وسرعة الهواء لتحديد أفضل وضعية للطيران.

الإرث الذي تركه ليلينتال

لم يكن اختراع الطائرة الشراعية مجرد إنجاز فردي بل كان بمثابة البذرة الأولى للثورة التي غيّرت مجرى الحضارة الإنسانية، وفتحت أبوابًا للابتكار والتطوير المستمر. تم تكريمه بعد وفاته بعدة طرق:

• إنشاء متحف باسم Otto Lilienthal Museum في مدينة أنكلام.

• استخدام نماذجه في تعليم الفيزياء والميكانيكا الهوائية.

• نُقش اسمه في العديد من منشآت الطيران والمطارات بألمانيا وأوروبا.

• أدرج اسمه في موسوعة الطيران العالمية كأول طيار معترف به رسميًا.

استنتاجات تاريخية

يمكن القول إن ليلينتال لم يكن فقط أول من طار بطائرة شراعية حقيقية، بل كان أول من برهن علميًا على إمكانية طيران الإنسان باستخدام مبادئ فيزيائية قابلة للتكرار. ورغم أن الطيران بمحرك لم يكن ضمن منجزاته، فإن الطيران الشراعي هو ما وضع الأساس التكنولوجي والأخلاقي والعملي لكل ما تلاه من تطورات مذهلة في مجال الطيران المدني والعسكري والفضائي.

المراجع

1. Anderson, John D. Introduction to Flight. McGraw-Hill Education, 2015.

2. Otto Lilienthal Museum Official Website – https://www.lilienthal-museum.de